أحب دائما أن أتحدث عن التغيير الذي حول حياتي في سنوات المراهقة الأولى، وكيف تغيرت نظرتي للإسلام والمسلمين بشكل جذري.
كنت قد نشأت في بيئة بعيدة عن الالتزام، ولم تكن فكرتي عن المسلمين بالمشرقة أبدا، ولا أدرك بالضبط من أين ترسخت في عقلي تلك الفكرة السيئة عنهم والتي تصفهم بالجهل، والكسل، والهمجية والتشدد، وغيرها من الصفات التي أعتقد أن البيئة العلمانية هي من أوحى لي بها عبر أحاديث تكررت مرارا.
لم أكن أهتم بتغيير الفكرة أو بالبحث عن تصحيح لها، فقد كنت مشغولة بأمور أخرى كالقراءة والرسم والتعلم وغيرها أشياء كثيرة ،لم تترك لي الفرصة للتفكير بالأمر، بل أخذته كمسلمة من المسلمات ولم أكن أحتاج لنفيه أو تأكيده، خاصة أن مظهري لا يوحي مطلقا بأنني مسلمة فلم أكن أعاني من الأمر كثيرا.
في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية صادف أن انتقلت من مدرستي إلى مدرسة جديدة كانت معروفة بتميزها، رغبة في تحصيل علامات أكثر في الامتحان المؤهل لدخول الجامعة، وكانت المدرسة تقع في منطقة وسطى من مدينتنا، وتجتمع فيها فتيات من كافة الطبقات الاجتماعية والثقافية، فكانت خليطا متميزا وفرصة لتجديد معارفي.
ولأن ترتيب الأسماء في الصفوف كان إجباريا حسب التسلسل الأبجدي في تلك المدرسة، فقد اضطررت لفراق صديقاتي المقربات والقبول بلقاء يجمعني بهن في الفسحة فقط، ومن ثم التعرف على صديقات جدد يرافقنني طوال ساعات الدرس.
جلست بجانبي فتاة محجبة شديدة الجمال، وقد أحببت تقارب بيئتينا فأهلنا يعملون جميعا في سلك التعليم، وكلا العائلتين تقدسان العلم، لكن الاختلاف بيننا كان في عدم ارتدائي للحجاب، بينما كانت هي ممن حوربن بشكل كبير لعدم التزامها بالقانون الذي كان مفروضا على طالبات المدارس وقتها بإجبارهن على خلع الحجاب، فكانت تتهرب من دروس الأساتذة تارة، وتغطي رأسها بقبعة صوفية تارة أخرى، وتختبئ تحت المقعد عندما يدخل مساعد المدير بشكل مفاجئ إلى صفنا، وقد تأثرت بكفاحها كثيرا ونالت مني كل محبة واحترام وبدأت أفكر في تمسكها بحجابها بهذا الحب، رغم أن أحدا لن يلومها لو تخلت عنه ريثما تتخرج من المدرسة الثانوية كما كانت تفعل معظم الفتيات، وكانت هي السبب الأول في تغييري.
كان قد مضى عامان كاملان منذ بدأت ألتزم بالصلاة، ولكن نظرتي للملتزمين وللمسلمين الأوائل كانت كما هي وكأنهم أناس بعيدون عن المدنية، والعلم والأناقة، والمرح والسعادة، مشغولون بتشددهم وحياتهم الكئيبة ويكرهون الآخرين، وجاء التغيير الثاني وقتها عندما تعرفت على فتاة أخرى في المدرسة، كان منزلها يقع في أرقى حي من أحياء المدينة وكانت تنتمي لعائلة جميع أفرادها تلقوا تعليما عاليا، والأهم من هذا كله أنها كانت مرحة، مشرقة، مبتسمة دون تكلف رغم إعاقتها الكبيرة.
كانت نموذجا محيرا لي وقتها، فكيف لتلك الفتاة العرجاء أن تقبل على الدنيا بهذه الروح، في حين أمتلك أنا كل ما قد ترغب فيه ولا تتوقف حالات الشكوى والكآبة التي تصيبني، وأعالجها بتغيير تسريحة شعري، أو شراء الملابس، أو اكسسوارات جديدة دون أن تنفعني هذه العلاجات إلا لساعات محدودة.
التغيير الثالث كان نقطة الانطلاق، وبدأ عندما قرأت كتابا أهدتني إياه تلك الصديقة عن الصحابي الجليل مصعب ابن عمير، لكاتب يحكي عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ويسرد حكاياتهم بطريقة جذابة، وكانت البداية مع هذا الشاب الغني المدلل، الأنيق والجميل الذي ترك هذا كله رغبة في اتباع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خلقت عندي هذه الحكاية فضولا كبيرا جعلني أقبل على قراءة الكتاب وغيره بنهم شديد، فكان أن تغيرت كثيرا وأقبلت على العبادات واتخذت قراري بالحجاب.
لم يتركني الآخرون وشأني، وكان لا بد من محاولات مستميتة لإعادة هذه المراهقة الهاربة إلى التاريخ من مغامراتها المجنونة حسب معتقدهم طبعا، فكانت جلسات نقاش لا حصر لها وأهديت لي كتب أثارت لدي الشكوك في وجود الخالق عز وجل، وفي الأحاديث النبوية وصحتها وحتى في القرآن الكريم، وكطفلة لم تتجاوز السابعة عشرة ولا تملك من العلم ما يحصنها، فقد وصلت إلى مرحلة متقدمة من الشك بدأت تخيفني على نفسي.
الجميل في الأمر أنني لم أترك صلاتي وصيامي قط، ولم أعبث وأتهاون بالفرائض فبقيت عاداتي كما هي رغم أني كنت أؤديها بثقل كبير، وبدأت علاج روحي التائهة بالدعاء تارة، وبشراء كتب المهتدين في محاولات لاستعادة إيماني.
لم يكن الله تعالى ليخيب من يلجأ إليه، ولم يكن ليتخلى عمن تمسك بحبله بحسن ظن، فلقد سخر لي جلسات لدراسة فقه السيرة مع صديقاتي، ولا أستطيع إلا أن أشكر الله سبحانه وتعالى أن منحني هذه التجربة الهامة لأدرك إيمانا فطريا مدعما بالأدلة والبراهين، جعلني أقرب إليه سبحانه وأكثر ثقة وحسن ظن به، وكذلك منحني قدرة على إدراك الطرق والمداخل التي يمكن بها تخريب عقيدة أولادنا، وكيفية الثبات والتمسك بالدين وتناول العلاج خطوة خطوة، وقد أصبحت أشفق على من لا يملك رابطة وعلاقة قوية بالخالق العظيم، والإحساس بالألم الذي يتركه لديهم فراغ قلوبهم وكذلك رغبتهم في التمسك بما نمسكه من حبال.
ما زلت أرى أن حكايتي تمثل حكاية الكثير من الشباب في المجتمعات غير المسلمة، وأن طريقا سلكته بعناية ربانية من الممكن أن يكون دليلا لهداية الآخرين.
خلاصة الحكاية تقول:
- أحط طفلك بأطفال متميزين من بيئات ملتزمة.
- دعه يتعرف على نبيه الكريم وسيرته وفقه هذه السيرة الشريفة دون تهاون وتكاسل منك.
- علمه من هم صحابة النبي، وبين له ميزاتهم وشخصياتهم الفذة والراقية.
- لا تبخل عليه بما تعرفه وما تتعلمه معه من تاريخنا الإسلامي، ولعلها تكون فرصة جميلة لك أيضا.
- العلاقة الصحيحة مع الله هي الأهم، والأهم فيها أن يدرك ويثق أن الأمر كله بيد الله تعالى، والرزق بيده والخير والشر بيده وحده، وأنه من يجب أن نلجأ إليه أولا وأخيرا.
- امنحه روح الشفقة على من لم يعرف الله تعالى ولم يكن دينه الإسلام، فلا ينظر إليهم باحتقار ولا يتهمهم بتهمة، فهؤلاء لم يختاروا دينهم، ومن واجبنا أن نقدم لهم نموذجا جميلا وراقيا للمسلم، ومحبة وعطفا قبل كل شيء، فهذا حقهم علينا ومما سيحاسبنا عنه الله تعالى يوم الدين.
- علمه أن الرزق والمقادير بيد الله تعالى وحده، فلا يذل نفسه ولا يخاف ولا ينحني، وأن العزة ميراثه الذي وجب عليه الحرص عليه.
- عرفه معنى كلمة الله الصمد التي نرددها كل يوم مرات عدة.
- كن له قدوة راقية حسنة مستحضرا النية في كل خطوة وفعل.
- علمه أن عنصرية الآخرين يجب أن يقابلها وجه مبتسم واثق بالله وبنفسه.
- لا تترك التحصين والدعاء والصدقة ليحفظه الله لك مؤمنا موحدا عزيزا.
عبير النحاس
جزاك الله خيرا